عسكرة الزمن | نصوص

Linda Davidson | حاجز إسرائيليّ

 

تُخبّئ ماما زمنًا احتياطيًّا في حقيبتها، تغلِّفه مثل شطيرة بيتيّة، تقسمه بيني وبين أخي بالتساوي، أو هذا على الأقلّ ما تعتقده. تعطيني علكة على غلافها رسومات لكائناتٍ خياليّة، "حكايا مطّاطيّة على هيئة عظاءة أو أفعى أو دولفين"، ودمية يختلف حجمها وجودتها باختلاف حالتنا المادّيّة في ذلك اليوم. نقف أنا وأخي جنبًا إلى جنب، نراقب تناولنا المتزامن لزمننا الاحتياطيّ، يأخذ أخي وقتًا طويلًا لبصق العلكة، في ما يكلّفني الأمر خمس دقائق حتّى أصاب بملل لا يُطاق، لا من العلكة فحسب، بل من كلّ شيء آخر. إنّ الشيء الآخر الّذي أقصده وأستهدفه دومًا مصدرًا رئيسيًّا للائحة مَلَلي من العالم، هو الحاجز. هنا، يتباطأ الزمن إلى أبعد حدّ دون أن يأخذنا إلى مكان، ندور في ثقب دوديّ لا نرى فيه سوى اللون الرماديّ؛ بحيث يصبح لون العلكة الورديّ مدعاة إلى الاحتفال. أُخرجها من فمي، أضغط عليها بيدي، أُلصقها بجانب القضيب الحديديّ الّذي يفصل بين طابور النساء والرجال، أبتسم. تصفعني ماما ويشمت أخي.

"لا تلصقيها فوق آية الكرسي". تُبرّر ماما صفعَتها فأفتح عينيّ على وسعهما، وأتدرّب على الأبجديّة التعيسة الّتي لم يسمح لي نشاطي الزائد بحفظها أثناء الدرس، أزيلها عن آية الكرسي وألصقها في مكان آخر. تبتسم ماما ببلاهة فأرمق أخي بانتصار سرعان ما يردّ عليه بلكزة على كتفي. أتجاهله، وأقرّر أنّني سأخبّئ زمني الاحتياطيّ؛ كي أقرأ شيئًا من الأبجديّة المجّانيّة الّتي بدت لي منزوعة من سياقها وملصقة عنوةً في حيّز غريب، لم نختره وإنّما فُرِض علينا.

"إ، ع، ل، ا، ن" أهجّئ الحروف حرفًا حرفًا ببطء شديد يقاطعه أخي بلهجة مندفعة: "إعلان، مكتوب إعلان يا غبيّة. هذا ’مكتب تكسي الأحلام‘". يصمت، يحاول قحطها بأظافره المتّسخة لكنّني أمنعه وألصق فوقها الرسمة الّتي حصلت عليها من العلكة، ينظر بفمٍ ملتوٍ إلى التنّين الّذي ابتلع كلمة ’الأحلام‘، تُعجبه الفكرة، يلصق قطّته قرب تنّيني ويُمسِّد عليها: "سأسمّيها عنتر". تصرخ سيّدة عجوز تقف خلفنا، ألتفت إليها، أعدّ الرؤوس الفاصلة بيننا وأتخيّلها تصرف ما تبقّى من أيّامها هناك، خلف الرؤوس السبعة الّتي تصنع حاجزًا من اللحم يحول دون رؤيتها لنا. لم نكن مرئيّين في هذا الطابور، الناس ببساطة مشغولون على الدوام بشيءٍ ما، حتّى أولئك الّذين لا يبدون منشغلين خارجيًّا، تراهم منشغلين داخليًّا. يحدّقون في نقطة ثابتة، ونادرًا ما يتحرّكون. حتّى ماما أصبحت واحدة منهم، أحيانًا كثيرة يؤنّبني ضميري على اللا تكافؤ الزمنيّ بيننا وبينها، كيف تعتني بزمننا وتُحضِّره لنا قبل موعده على حساب زمنها الخاصّ، الّذي أصبح جزءًا من زمن جمعيّ يأكله صدأ قضبان الحاجز.

ينفد صبري، أقفز في مكاني، أفرك يديّ، أضغط على الدمية القماشيّة بعنف وأنتزع عينها، أنظر إلى الخيط الأبيض القصير المتدلّي منها، تسقط عينها من يدي وتتدحرج بين أقدام الناس، أتبعُها وأشاهدها تقف تحت حذاء شابّة غاضبة مثلي، ولأسباب لن أعرفها. أطلب منها رفع قدمها، ترمقني بصمت مخيف فأنتزع العين من تحت حذائها وألوِّح بها مبرّرةً تطفّلي: "كنت أبحث عن عين دميتي". تتجاهلني فأعود أدراجي محدِّقةً في نتائج غضبي: دمية قماشيّة دون عين في يد، وعين دون وجه يحتويها في يد. أشعر بالأسى عليها، فأبكي.

تُفتحُ البوّابة، نتقدّم قليلًا، نبتعد عن القضيب الحديديّ السميك، تُمسِّد ماما على شعري بتفاؤل أعجزُ عن فهمه؛ لأنّ الشيء الوحيد الّذي أفكّر فيه هو زمني الاحتياطيّ الّذي لم أثقبه فحسب، بل أفسدتُ جزءًا من منظومته الجماليّة بتعنيف الدمية الحزينة الّتي كان بإمكانها أن تعيش حياة تليق بدمية بدلًا من عيشها حياة كحياتي. أبحث عن أخي فأراه قد انتقل إلى قسم الرجال عند جدّي، أحسده على مرونة زمنه وأفكّر في عصيان انحيازه الجندريّ، لكنّ ماما تُمسكني، تقول مواسيةً أشياء من قبيل: "اقتربَ دورنا، سأشتري لكِ ملابس العيد فورَ وصولنا، الفتيات لا يتركن أمّهاتهنّ، أمّا الأولاد فيمكنهم أن يذهبوا سريعًا". تلقّنني حزمًا من الجُمَل القصيرة السريعة الّتي لا يمكنني استيعابها دفعةً واحدة. ومع ذلك أهزّ رأسي تعاطفًا معها على أمومتها الّتي لا يمكنها أن تكون موفَّقةً طوال الوقت، خاصّةً في مكان كهذا. هنا، تُعلَّق الأمومة والطفولة على حدّ سواء، وتصبح تبادليّة الأدوار محرجة أحيانًا؛ فيخرج الأطفال كبارًا ويخرج الكبار شيوخًا وتخرج الأمّهات ثكالى. وحده ’مكتب تكسي الأحلام‘ يستفيد من هذه الخسارات الجماعيّة؛ لأنّه يفكّر في المستقبل المألوف، في روتينيّة الحاجز الّتي باتت شيئًا من المستحيل نقاشه، لذا؛ فالأجدر به أن يناقش الكيفيّة الّتي سيصل بها الناس إلى الأماكن الأخرى بعد خروجهم.

دائمًا ثمّة مخرج بعد هذا العجن الدوديّ للزمن، ودائمًا ثمّة أماكن أخرى في انتظار أجساد أخرى، تملؤها ببقايا الجلد الميّت والمشروبات والأطعمة والنظرات الطويلة الفارغة. لا أحد هنا يفكِّر في الهُنا ’الحاجز‘، كلّهم مثل ماما يفكّرون في ملابس العيد، في المحالّ الّتي يمكن وضعها على القائمة لاختصار الوقت والمال.

يأتي دورنا، تتقدّم الجنديّة نحو دميتي، تتحسّسها بحثًا عن متفجِّرات، وحين تيأس تضعها على شريط متحرّك مليء بالصدأ والقذارة، يشبه الآلات الصغيرة النظيفة في المحالّ التجاريّة الكبرى. أراقب دميتي تُشرّح إلكترونيًّا، ثمّ أراقبها تُصادَر منّي لأنّ عينها العوراء تُهدِّد أمن ’دولة الاحتلال‘. دون مقدّمات وبلغة عربيّة مكسّرة، تقول الجنديّة مبتسمة: "لعبتك مخرِّب"، تمسكني أمّي من كتفي وتنظر إلى الدمية خلف النافذة الشفّافة الصغيرة، وكأنّها تنظر إلى ابن لها حُكِم عليه بالمؤبّد. تحاول مفاوضة الجنديّة: "لكنّها مجرّد لعبة، كما ترين". يلصق أخي رأسه في النافذة ويتطلّع بغضب نحو الجنديّة الّتي أمسكت الدمية وراحت تُمثّل لعبها بها وكأنّها طفلة حقيقيّة.

كان جدّي يقف في زاوية قريبة منّا يتأمّل المشهد بصَمت، لقد فقدَ القدرة على الاحتجاج منذ زمن طويل، إنّه الآن شخص صامت على الدوام، أهدأ شخص عرفتُه. يُخرِج سيجارة من جيب قميصه ويشعلها على مرأى الجيش، في وجه الجنديّة الفرِح، يُريها تجاعيد وجهه قبل تجاعيد يديه، يرسم حفنة من الضباب الساخر على النافذة، يمنع صورتها المتصابية من الخروج إلينا. يُمسكني بيده الأخرى ويأمرني بصرامة ألّا أنظرَ خلفي.

ساومَت ماما على حرّيّة الدمية القماشيّة حتّى آخر لحظة من وجودها على الحاجز، وحين طالبنا جدّي بالانصراف هزّت رأسها باستنكار، فشعرتُ بأنّ الجنديّة صادرت طفولتين: طفولة المرأة الّتي اشترت هذه اللعبة لي، وطفولتي.

من يستعيد طفولة ماما؟ ظلّ هذا السؤال يرافقني طوال الطريق، اخترت ملابس العيد وأنا أفكّر فيه، تناولت طعام الغداء وقطرة من الدمع عالقة في حلقي، بدا لي كأنّه سؤال يخصّني أكثر ممّا يخصّها، هي الّتي أكملت يومها كأنّ شيئًا لم يكن، بل وعدتني أن تشتري لي واحدة أخرى، فنسيتُ ما حدث بدوري ولم أعد أفتِّش عن طفولة ماما في أيّ مكان.

فور وصولنا إلى مجمّع السيّارات، نفخ أخي كيس الزمن الفارغ الخاصّ به، ثمّ أغلقه بإحكام وداسَ عليه. لا أعرف كيف عاد الزمن بنا مرّة أخرى إلى الحاجز، كنتُ هذه المرّة امرأةً باردة الأعصاب، بلا أزمنة احتياطيّة، أُمسك بيدِ فتاة صغيرة غاضبة تَبيّن لي في ما بعد أنّها ابنتي، أناولها من الكيس دمية اشتريتُها لها للتوّ كي تنسى أنّ عليها الانتظار لساعات. تأبّطَتها واختطفت الكيس من يدي، فتحَت علبة العلكة وألصقَت دبًّا صغيرًا على القضيب الحديديّ، إلى جانب حفنة من الحيوانات الّتي تقشّرت أجسادها ولم يبقَ من بعضها سوى رأسها.

يأتي دورنا فتأخذ الجنديّة دميتها لتفحصها ولا تعيدها إلينا. تغضب ابنتي فيحاول شقيقي العجوز أن يُنسيها أمرها مربِّتًا على كتفها بيد، وممسكًا سيجارته باليد الأخرى. أمّا أنا فلا أعدها بشيء ولا أشتري لها دمية أخرى فور خروجنا. أريدها أن تغضب، أن تنمو وفي لاوعيها ضرورة المعرفة؛ كي تبحث بنفسها عن طفولتها الّتي استُبدِلَت بها تجاعيد مصنوعة على عجل أُلصِقَت عنوةً بوجهها الأصفر الطويل، وكي تُعيد الزمن إلى حجمه الأصليّ؛ من جنديّ مسلّح على حواجز التفتيش، إلى حارس كسول على بوّابات الطفولة.

تُخبّئ ماما زمنًا احتياطيًّا في حقيبتها، تغلِّفه مثل شطيرة بيتيّة، تقسمه بيني وبين أخي بالتساوي، أو هذا على الأقلّ ما تعتقده. تعطيني علكة على غلافها رسومات لكائناتٍ خياليّة، "حكايا مطّاطيّة على هيئة عظاءة أو أفعى أو دولفين"، ودمية يختلف حجمها وجودتها باختلاف حالتنا المادّيّة في ذلك اليوم. نقف أنا وأخي جنبًا إلى جنب، نراقب تناولنا المتزامن لزمننا الاحتياطيّ، يأخذ أخي وقتًا طويلًا لبصق العلكة، في ما يكلّفني الأمر خمس دقائق حتّى أصاب بملل لا يُطاق، لا من العلكة فحسب، بل من كلّ شيء آخر. إنّ الشيء الآخر الّذي أقصده وأستهدفه دومًا مصدرًا رئيسيًّا للائحة مَلَلي من العالم، هو الحاجز. هنا، يتباطأ الزمن إلى أبعد حدّ دون أن يأخذنا إلى مكان، ندور في ثقب دوديّ لا نرى فيه سوى اللون الرماديّ؛ بحيث يصبح لون العلكة الورديّ مدعاة إلى الاحتفال. أُخرجها من فمي، أضغط عليها بيدي، أُلصقها بجانب القضيب الحديديّ الّذي يفصل بين طابور النساء والرجال، أبتسم. تصفعني ماما ويشمت أخي.

"لا تلصقيها فوق آية الكرسي". تُبرّر ماما صفعَتها فأفتح عينيّ على وسعهما، وأتدرّب على الأبجديّة التعيسة الّتي لم يسمح لي نشاطي الزائد بحفظها أثناء الدرس، أزيلها عن آية الكرسي وألصقها في مكان آخر. تبتسم ماما ببلاهة فأرمق أخي بانتصار سرعان ما يردّ عليه بلكزة على كتفي. أتجاهله، وأقرّر أنّني سأخبّئ زمني الاحتياطيّ؛ كي أقرأ شيئًا من الأبجديّة المجّانيّة الّتي بدت لي منزوعة من سياقها وملصقة عنوةً في حيّز غريب، لم نختره وإنّما فُرِض علينا.

"إ، ع، ل، ا، ن" أهجّئ الحروف حرفًا حرفًا ببطء شديد يقاطعه أخي بلهجة مندفعة: "إعلان، مكتوب إعلان يا غبيّة. هذا ’مكتب تكسي الأحلام‘". يصمت، يحاول قحطها بأظافره المتّسخة لكنّني أمنعه وألصق فوقها الرسمة الّتي حصلت عليها من العلكة، ينظر بفمٍ ملتوٍ إلى التنّين الّذي ابتلع كلمة ’الأحلام‘، تُعجبه الفكرة، يلصق قطّته قرب تنّيني ويُمسِّد عليها: "سأسمّيها عنتر". تصرخ سيّدة عجوز تقف خلفنا، ألتفت إليها، أعدّ الرؤوس الفاصلة بيننا وأتخيّلها تصرف ما تبقّى من أيّامها هناك، خلف الرؤوس السبعة الّتي تصنع حاجزًا من اللحم يحول دون رؤيتها لنا. لم نكن مرئيّين في هذا الطابور، الناس ببساطة مشغولون على الدوام بشيءٍ ما، حتّى أولئك الّذين لا يبدون منشغلين خارجيًّا، تراهم منشغلين داخليًّا. يحدّقون في نقطة ثابتة، ونادرًا ما يتحرّكون. حتّى ماما أصبحت واحدة منهم، أحيانًا كثيرة يؤنّبني ضميري على اللا تكافؤ الزمنيّ بيننا وبينها، كيف تعتني بزمننا وتُحضِّره لنا قبل موعده على حساب زمنها الخاصّ، الّذي أصبح جزءًا من زمن جمعيّ يأكله صدأ قضبان الحاجز.

ينفد صبري، أقفز في مكاني، أفرك يديّ، أضغط على الدمية القماشيّة بعنف وأنتزع عينها، أنظر إلى الخيط الأبيض القصير المتدلّي منها، تسقط عينها من يدي وتتدحرج بين أقدام الناس، أتبعُها وأشاهدها تقف تحت حذاء شابّة غاضبة مثلي، ولأسباب لن أعرفها. أطلب منها رفع قدمها، ترمقني بصمت مخيف فأنتزع العين من تحت حذائها وألوِّح بها مبرّرةً تطفّلي: "كنت أبحث عن عين دميتي". تتجاهلني فأعود أدراجي محدِّقةً في نتائج غضبي: دمية قماشيّة دون عين في يد، وعين دون وجه يحتويها في يد. أشعر بالأسى عليها، فأبكي.

تُفتحُ البوّابة، نتقدّم قليلًا، نبتعد عن القضيب الحديديّ السميك، تُمسِّد ماما على شعري بتفاؤل أعجزُ عن فهمه؛ لأنّ الشيء الوحيد الّذي أفكّر فيه هو زمني الاحتياطيّ الّذي لم أثقبه فحسب، بل أفسدتُ جزءًا من منظومته الجماليّة بتعنيف الدمية الحزينة الّتي كان بإمكانها أن تعيش حياة تليق بدمية بدلًا من عيشها حياة كحياتي. أبحث عن أخي فأراه قد انتقل إلى قسم الرجال عند جدّي، أحسده على مرونة زمنه وأفكّر في عصيان انحيازه الجندريّ، لكنّ ماما تُمسكني، تقول مواسيةً أشياء من قبيل: "اقتربَ دورنا، سأشتري لكِ ملابس العيد فورَ وصولنا، الفتيات لا يتركن أمّهاتهنّ، أمّا الأولاد فيمكنهم أن يذهبوا سريعًا". تلقّنني حزمًا من الجُمَل القصيرة السريعة الّتي لا يمكنني استيعابها دفعةً واحدة. ومع ذلك أهزّ رأسي تعاطفًا معها على أمومتها الّتي لا يمكنها أن تكون موفَّقةً طوال الوقت، خاصّةً في مكان كهذا. هنا، تُعلَّق الأمومة والطفولة على حدّ سواء، وتصبح تبادليّة الأدوار محرجة أحيانًا؛ فيخرج الأطفال كبارًا ويخرج الكبار شيوخًا وتخرج الأمّهات ثكالى. وحده ’مكتب تكسي الأحلام‘ يستفيد من هذه الخسارات الجماعيّة؛ لأنّه يفكّر في المستقبل المألوف، في روتينيّة الحاجز الّتي باتت شيئًا من المستحيل نقاشه، لذا؛ فالأجدر به أن يناقش الكيفيّة الّتي سيصل بها الناس إلى الأماكن الأخرى بعد خروجهم.

دائمًا ثمّة مخرج بعد هذا العجن الدوديّ للزمن، ودائمًا ثمّة أماكن أخرى في انتظار أجساد أخرى، تملؤها ببقايا الجلد الميّت والمشروبات والأطعمة والنظرات الطويلة الفارغة. لا أحد هنا يفكِّر في الهُنا ’الحاجز‘، كلّهم مثل ماما يفكّرون في ملابس العيد، في المحالّ الّتي يمكن وضعها على القائمة لاختصار الوقت والمال.

يأتي دورنا، تتقدّم الجنديّة نحو دميتي، تتحسّسها بحثًا عن متفجِّرات، وحين تيأس تضعها على شريط متحرّك مليء بالصدأ والقذارة، يشبه الآلات الصغيرة النظيفة في المحالّ التجاريّة الكبرى. أراقب دميتي تُشرّح إلكترونيًّا، ثمّ أراقبها تُصادَر منّي لأنّ عينها العوراء تُهدِّد أمن ’دولة الاحتلال‘. دون مقدّمات وبلغة عربيّة مكسّرة، تقول الجنديّة مبتسمة: "لعبتك مخرِّب"، تمسكني أمّي من كتفي وتنظر إلى الدمية خلف النافذة الشفّافة الصغيرة، وكأنّها تنظر إلى ابن لها حُكِم عليه بالمؤبّد. تحاول مفاوضة الجنديّة: "لكنّها مجرّد لعبة، كما ترين". يلصق أخي رأسه في النافذة ويتطلّع بغضب نحو الجنديّة الّتي أمسكت الدمية وراحت تُمثّل لعبها بها وكأنّها طفلة حقيقيّة.

كان جدّي يقف في زاوية قريبة منّا يتأمّل المشهد بصَمت، لقد فقدَ القدرة على الاحتجاج منذ زمن طويل، إنّه الآن شخص صامت على الدوام، أهدأ شخص عرفتُه. يُخرِج سيجارة من جيب قميصه ويشعلها على مرأى الجيش، في وجه الجنديّة الفرِح، يُريها تجاعيد وجهه قبل تجاعيد يديه، يرسم حفنة من الضباب الساخر على النافذة، يمنع صورتها المتصابية من الخروج إلينا. يُمسكني بيده الأخرى ويأمرني بصرامة ألّا أنظرَ خلفي.

ساومَت ماما على حرّيّة الدمية القماشيّة حتّى آخر لحظة من وجودها على الحاجز، وحين طالبنا جدّي بالانصراف هزّت رأسها باستنكار، فشعرتُ بأنّ الجنديّة صادرت طفولتين: طفولة المرأة الّتي اشترت هذه اللعبة لي، وطفولتي.

من يستعيد طفولة ماما؟ ظلّ هذا السؤال يرافقني طوال الطريق، اخترت ملابس العيد وأنا أفكّر فيه، تناولت طعام الغداء وقطرة من الدمع عالقة في حلقي، بدا لي كأنّه سؤال يخصّني أكثر ممّا يخصّها، هي الّتي أكملت يومها كأنّ شيئًا لم يكن، بل وعدتني أن تشتري لي واحدة أخرى، فنسيتُ ما حدث بدوري ولم أعد أفتِّش عن طفولة ماما في أيّ مكان.

فور وصولنا إلى مجمّع السيّارات، نفخ أخي كيس الزمن الفارغ الخاصّ به، ثمّ أغلقه بإحكام وداسَ عليه. لا أعرف كيف عاد الزمن بنا مرّة أخرى إلى الحاجز، كنتُ هذه المرّة امرأةً باردة الأعصاب، بلا أزمنة احتياطيّة، أُمسك بيدِ فتاة صغيرة غاضبة تَبيّن لي في ما بعد أنّها ابنتي، أناولها من الكيس دمية اشتريتُها لها للتوّ كي تنسى أنّ عليها الانتظار لساعات. تأبّطَتها واختطفت الكيس من يدي، فتحَت علبة العلكة وألصقَت دبًّا صغيرًا على القضيب الحديديّ، إلى جانب حفنة من الحيوانات الّتي تقشّرت أجسادها ولم يبقَ من بعضها سوى رأسها.

يأتي دورنا فتأخذ الجنديّة دميتها لتفحصها ولا تعيدها إلينا. تغضب ابنتي فيحاول شقيقي العجوز أن يُنسيها أمرها مربِّتًا على كتفها بيد، وممسكًا سيجارته باليد الأخرى. أمّا أنا فلا أعدها بشيء ولا أشتري لها دمية أخرى فور خروجنا. أريدها أن تغضب، أن تنمو وفي لاوعيها ضرورة المعرفة؛ كي تبحث بنفسها عن طفولتها الّتي استُبدِلَت بها تجاعيد مصنوعة على عجل أُلصِقَت عنوةً بوجهها الأصفر الطويل، وكي تُعيد الزمن إلى حجمه الأصليّ؛ من جنديّ مسلّح على حواجز التفتيش، إلى حارس كسول على بوّابات الطفولة.

 


 

دنيا الطيّب 

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.